لا نهضة بلا قيم ولا قيم بلا دين، ورغم انه من الممكن انجاز نهضة اقتصادية بدون دين الا ان هذا لا يسمى نهضة بل يسمى نمواً اقتصادياً، وهذا النمو لن يدوم لانه ليس مبنياً على قيمٍ صحيحة تؤمن بان الله فوق عباده رقيب عليهم، ولا شك اذاً ان الفساد سيعم وان الطبقية ستحل محل المساواة وان العدالة ستنفذ ولكن على حسب حسابك المصرفي وحجم بيتك او بالاحرى قصرك. وهذا هو الحال في كل دول العالم، غنيها وفقيرها، مسلمها وكافرها، فالجشع لا يعرف لوناً او ديناً.
لذا نحتاج الى وسيلةٍ تطهيريةٍ لتغير هذا الحال، ولكن الناس اصبحوا اكثر جموداً من ذي قبل، فهم يرفضون فكرة الاصلاح من الداخل، اي اصلاح الشخص لنفسه قبل غيره. ولان هناك ثغرة كبيرة بين النخب المستنيرة والشارع، ولا يهم ان كانت هذه النخبة متدينة ام لا، المهم انها فقدت القدرة على التواصل مع المواطن العادي، وذلك لان النخبة تريد تغيير المجتمع من اعلى الهرم، بالثورات والاعتصامات والانقلابات، وهذا لا يزيد الطين الا بلاة، اذ ان الثورة ما هي الا كمن يبحر في بحر عاصف بلا اشرعة ولا سارية فلا تدري اين سترمي به الريح.
الانسان روح وجسد، ومنذ ان سافر العرب الى اوروبا قبيل الحرب العالمية وهم فقدوا قدرتهم على تغيير انفسهم لانهم عادوا الى ديارهم غير مهتميين بالجانب الروحي من شخصيتهم. واقتنعوا بانهم حقاً اغبياء متخلفون، لا خير فيهم ولا في دينهم. وهذا الاحباط الشخصي، وسلب الانسان نفسه من كل ما يملك من عزة وكرامة تجعله مفعولاً به في جملة امرية او نهيية تصلة من عواصم العالم الغربي، فيسجد ويطيع.
هذه الفجوة الفكرية، بل هذا الانتحار الفكري هو السبب في تخلفنا عن العالم الخارجي. انظر الى اليابان مثلاً، كانوا في عزلة عن العالم الخارجي لقرون عدة، فحين لم يقدروا على مقاومة العولمة، ارسلوا خيرة شبابهم المحب لارضه وتقاليد اسلافه الى الغرب، لكي يتعلم علومهم، فعادوا واصبحوا معلمين وبنوا نهضة ستظل للابد درساً للبشرية. ومع هذا تجدهم متمسكين من صغيرهم الى كبيرهم بتعاليم ثقافتهم ومعتقدات اديانهم.
ما اريد طرحه هنا هو ان القيم هي اساس الحضارات، فلن تكون لنا قائمة ونحن نريد سلخ جلودنا وارتداء جلود جاهزة صنعت لغيرنا، اذاً الثورة المطلوبة هي ثورة اخلاقية للتمسك بمعتقداتنا، انها تلك النظرية التي تقول انك اذا تمكنت من تغيير سلوك فرد واحد يمكنك ان تغير سلوك اهله ومجتمعه ثم دولته، وهذه النظرية تقوم على الاهتمام الاخلاق كهدف اساسي لتغيير الامم. علينا كامة مسلمة ان نستخدم هذه النظرية للوصول الى نهضة أخلاقية تكون اساساً لنهضتنا الاقتصادية.
على الفرد ان يجد في روحه ما يحفزه لتغيير نفسه وسلوكه، ولا يمكنني ان اقترح وسيلة افضل لتغيير الذات والمجتمع من "الصلاة". ولا اعني بها الحركات السريعة الفاقدة لكل معاني الصلاة، بل اعني صلاة تغسل الروح من كل قيم الشر فيها. صلاةً بكل شروطها واركانها وسننها ونوافلها. صلاةً تتحد فيها الصفوف فلا تتفرق ولا تنعوج ولا تتسع لإبليس وتلبيساته، صلاةً تصلح ما افسدناه بذنوبنا تجاه ربنا واتجاه انفسنا ومجتمعنا.
ورغم كثرة المصلين في المساجد الا ان مجتمعاتنا تقبع في برك من الفساد الاخلاقي، فتجد الرجل لا تفوته صلاة في جماعة ثم يلعن هذا، ويغش هذا، ويغتاب ذاك، ويسرق من تلك ويشهد زوراً على هؤلاء! فلا تجد اثراً لهذه الصلاة، والمسكين "كالحمار يحمل اسفاراً"، وما ذاك الا لانه لم يصلي بل مارس عادة من عاداته الاجتماعية واطلق عليها اسم "الصلاة".
علينا معشر المصلين -والكلام لنفسي قبل غيري- ان نصلي صلاةً تستحق ان ترتفع الى الله عز وجل باحسن حال، فلا نصلي كمن يدفع ضريبة لحاكم ظالم، بل كمن يتقرب الى حيبه رب العرش الكريم، لنكُن كهابيل، لنقدم افضل ما نملك من صلاة لله عز وجل، ولا نكون كقابيل بحيث ننافق انفسنا ونقدم اقبح القربات ثم نتذمر عندما لا يتغير حالنا، فالله طيبٌ لا يقبل الا طيباً.
وعليه تكون النهضة نتاجاً لمجتمع صالح يعبد ربه كانه يراه، فان لم يكن يراه فإنه يؤمن بان الله يراه في ليله ونهاره وسره وجهره، فيخاف الله في نفسه فلا يهلكها بالمعاصي، ويخافه في ماله فلا يصرفه الا في الحلال، ويخافه في اهله فيرعى حقوق زوجته ويربي ابنائه على الخير، ويخاف الله في ارضه فيعمرها ويحرثها شاكراً الله عليها. لهذا قال الله تعالى:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾ [سورة النساء الآية:147]
وقال ايضاً:
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [سورة إبراهيم الآية:7]
اليست الصلاة ارقى وأعظم وسيلة للشكر؟ اذاً هل تستغرب اذا قلت لك "نهضتنا في مواضع سجداتنا"؟
اخوكم
م. محمد موسى