23.12.13


 في الجزء الاول من فلسفة الثورة (فلسفة الثورة: بين التخطيط العملي والعاطفة الجياشةنظرنا الى أهمية التخطيط العملي من أجل التغيير السياسي المطلوب في المجتمع، وفي الجزء الثاني (فلسفة الثورة: بين بناء الذات وبناء الحضاراتركزنا على أهمية تكوين شعوب قادرة على تطوير أفرادها لكي تكون قادرة على قيادة نفسها بنفسها خارج نطاق الدولة وبعدها تكون مجتمعات مصغرة تشترك في قيم محددة. ولكن ما هذه القيم ولماذا تثور الشعوب أصلاً؟ في هذا المقال ننظر إلى أسباب الثورات بشكل مختلف ونبحث عن القيم الأصيلة التي تكون مجتمعات خالدة.

روسو: الرومانسي الثائر:

"ولد الناس أحراراً، ولكنهم في كل مكان يعيشون مكبلين بالأغلال" هكذا وصف جان جاك روسو حال عالمه قبل الثورة الفرنسية بعقود ليكون أهم أعلام الثورة الرومانسية/الإبتداعية في قلب أوروبا حيث آمن بأن مشاعر الناس ورغباتهم وطرق تفكيرهم تختلف من شخص لآخر ولكن هناك دائماً مشاعر مشتركة تجمع هؤلاء، وعلى الشعوب الباحثة عن حريتها البحث عن هذه المشاعر لتوحيد كلمتهم وليكسروا أغلال الظلم والإستبداد.

ولد جان جاك روسو في ١٧١٢ في مدينة جنيف في سويسرا، لم يعرف أمه التي ماتت متأثرة بولادته بعد عشرة أيامٍ فقط من قدومه إلى هذا العالم. كان دائماً ينظر إلى هذا الأمر بشكل سوداوي حيث كان يقل: "ولادتي كانت أول العلامات على سؤء حظي، لقد ولدت وأنا بالكاد أموت، لم يكن هناك أملٌ في إنقاظي" كان ينظر إلى نفسه على أنه كان جينة مريضة تناقلت عبر الزمن لتحط في صيف ذاك العام وتأخذ روح أمه الحبيبة معها.

من البداية كانت علاقته بمن حوله علاقة درامية متشنجة، يسودها جو من المشاعر الجياشة، أبوه كان صانع ساعات بسيط وكان دائماً ينظر في عيني روسو باحثاً عن حبيبة قلبه التي عرفها منذ الطفولته والتي تركته مع هذا الصبي غريب الأطوار العاشق للقراءة.

ترعرع روسو في جنيف، تلك المدينة الخلابة التي رفضت أن تكون قبلتها في روما وقررت أن تكون بروستنتانية خالصة في بحر من الدول والإقطاعيات الكثلوكية. كانت جنيفا محاطة بالجبال والجليد الأمر الذي حماها من عقلية الكاثلوكيين الرجعية وغزواتهم، هناك حول بحيرة جنيفا الخلابة تربى روسو على حب الحياة والطبيعة وصاغ أفكاره الثورية ما بين الأشجار والوديان.

 كانت جنيف في ذاك العصر المظلم في أوروبا شمعة يفتخر بها وبقيمها الديمقراطية كل من عاش فيها، كان والد روسو يربي إبنه على قيم الحرية ويقراء له من مكتبة زوجته الراحلة كُتباً عن الحرية والمساواة والقيم الحقيقية التي تصنع حضاراتٍ عريقة. كان روسو يقضي وقته مع أبيه في تلك المكتبة يتداولان الكتاب تلو الآخر حيث يقراء كلٌ منهما لصاحبه حتى مطلع الفجر. 

كبر الطفل واصبح يافعاً عاشقاً للحرية وقيمها التي غُرست في قلبه، في السادسة عشرة من عمره ترك روسو جنيف بحثاً عن ذاته حتى إنتهى به المطاف في باريس. تلك المدينة الغارقة في الظلام، الطامسة لكل صوت يحاول أن يرتفع فوق صوت الملك والكنيسة التي تصور ملكه كأنه مقدس جاء من وحي السماء. في عام ١٧٤٢ إلتقى روسو بالفيلسوف والكاتب الفرنسي دنيس ديدرو وأصبحا صديقين عزيزين، كانا يجلسان طويلاً في المقاهي على الضفة اليسرى في الضاحية القديمة (مرتع المثقفين) للعب الشطرنج ولتبادل الأفكار الثورية والتي تعرف بالرومانسيات.

رغم أن الرجلين كانا مختلفين في معتقداتهما ولكنهما كانا متحدين في نبذ النظام الحالي، ديدرو كان مقتنعاً أن المستقبل سيكون مبنياً على العقلانيات والعلم المجرب، في نظره لا مكان لأي شيء لا يمكن فهمه والتثبت منه علمياً، العقل هو الوسيلة الوحيدة لتحرير الشعوب التي أنهكتها الكنيسة وغطرسة الحكومات الوراثية، قال لروسو في أحد جلساتهما: "ولد الناس ليفكروا ويختاروا ويقرروا بكل حرية وإستقلال." ولا يجوز لأحد أن يسلبهم هذه الحرية في التفكير والإختيار.

أما روسو فكان يؤمن بأهمية المشاعر في المجتمعات، العقل وحده لا يكفي، لابد أن لا يفقد الإنسان إنسانيته وأحاسيسة الفطرية، وكان يجيب ديدورو بالقول: "أن تشعر يعني أنك موجود، مشاعرنا تأتي وبكل عفوية قبل أفكارنا."

كلٌ من الرجلين أراد البحث عن حلول تنهض بالمجتمع ليتحرر من رجال الدين وغطرسة الطبقية وظلم الحاكم،  كانا يتحدثان دائماً عن الحرية والمساواة، في نظر كلٍ من هنا لم يعد هذا النظام القائماً مجدياً للتعبير عن تطلعات أوروبا، هذا النظام القائم غير إنساني. كانت هذه لعبة خطيرة وأفكاراً لا يمكن التفوه بها أمام الجماهير.

وفي ١٧٤٩تم القبض على ديدرو لأنه كان يفكر بشكلٍ مختلف، متخيلاً نظاماً عالمياً جديداً. كان ذلك مباشرة بعد نشره لموسعته "موسوعة الفنون والعلوم والحرف" والتي إحتوت على ٧٠ ألف مقال، و ٧ آلاف شكل توضيحي في كل العلوم المعروفة من الأحياء إلى الفيزياء والهندسة وفن العمارة. ولكن هذا المجلد العظيم لم يحتوي على أي شيء بخصوص الكنيسة وعقيدة المسيح المخلص والمصلوب لمغفرة ذنوب العالم. في نظر ديدرو لن يكون الإنسان حراً حتى يتخلص من آخر ملك يحتكر الحكم وآخر قسيس يصف ملك هذا الظالم بأنه مقدس. كان يؤمن بأن الشعوب بعلمها وفهمها السليم وقدرتها التكنلوجية ستتمكن من التخلص من تعاليم الكنيسة وضلالاتها الرجعية.

روسو كان يزور صديقه المحبوس في سجنه ثلاث مرات كل إسبوع، كان يمشي لأميال ليفكر ويتأمل وينظر في الطبيعة حوله لعله يجد حلاً لمشكلة العبودية الجماعية للحاكم المستبد،  وخلال هذه الرحلات جائته نظريته التي تقول أن كلاً منا يولد مسجوناً حتى يتحرر من سجنه. روسو بدأ في كتابة أفكاره هذه بشكل رسالات فلسفية، لتخرج علينا رسالته الأولى بعنوان "بحث في منشأ وأسس عدم المساواة" (١٧٥٥) ليشرح مشكلة عدم المساواة في المجتمعات وليستلخل الحلول اللازمة.

في نظره كانت الشعوب القديمة حرة سعيدة ولكن الحضارات والقوانين والتقاليد قيدت هذه الحرية، المأسسات هي التي حرمت الإنسان من حريته. الإنسان الأول كان حراً حتى فقد هذه الحرية بعد أن إستقر في منطقة معينة وساج سياجاً حول قطعة أرض وبنى عليها بيتاً وقال "هذه أرضي"، ليقوم الآخرون بنفس الشيء ويتحول المجتمع من مجتمع مسافر متنقل إلى مجتمع مستقر ولكن طبقي حيث يقاس الناس فيه بقدر ما يملكون بدلاً من قدراتهم العقلية أو البدنية أو خبراتهم الحياتية.

http://youtu.be/69F7GhASOdM

(الكهف: تحليل أفلاطون لطعم الحرية المفقودة)

يصنف روسو اللامساواة إلى نوعين، طبيعية وإجتماعية. اللامساواة الطبيعية هي الفروقات الجسدية والعقلية بين أفراد المجتمع وقسمها إلى قسمان، فروقات يمكن تغييرها وفروقات لا يمكن تغييرها. مثال الأولى هو ممارسة الرياضة والأكل الصحي للفرد الضعيف ليكون قوي البنية، أو التعلم وبناء المهارات العقلية للفرد الجاهل. ومثال الثانية هو الجنس والعرق والنسب. أما اللامساواة الإجتماعية فهي دائماً تقبل التغيير ويمكن تعديلها بمعالجة أفكار المجتمع وتغييره تدريجياً.

في كتابه "العقد الإجتماعي" (١٧٦٢) يحلل روسو أهم المشاكل الإجتماعية التي تقف حاجزاً بين الشعوب وحريتها، هنا يلخص روسو أفكاره ليقول لنا أن الإنسان كان سعيداً عندما كان وحيداً في الأدغال حيث الخطر قليل والموارد كثيرة ويسميها "الحرية الطبيعية"، ولكنه يحتاج للتضامن مع غيره لتكوين اللمجتمعات ليجعل حياته أسهل في وقت تقل فيه الموارد وترتفع فيه معدلات الخطر. وعليه فإن المجتمع الصالح هو ذاك الذي يستبدل  فيه أفراده "الحرية الطبيعية" بحرية أخرى تقابلها وتساويها وهي "الحرية السياسية".

بمعنى آخر، يقوم المجتمع بجمع الناس في مكانٍ ما (وطن أو إقليم) ويسلب حريتهم المطلقة ليعطيهم حرية مقننة محددة بالحقوق والواجبات وبالعدالة والمساواة في ما بينهم، على شرط أن يكون لكل فردٍ منهم حرية شخصية تفوق الحرية الجماعية وهي الحرية السياسية والتي تضمن إختيار من سيحكم ويقضي بينهم.

تمكن روسو في كتابه هذا من ترسيخ فكرة المجتمع المتحد والذي يضحي فيه كل شخص بجزء من حريته الخاصة من أجل مجتمع متحرر، أي أن الشعب يختار بشكل حر ونزيه من يمثله وفي نفس الوقت فإن هذا الشعب المكون من أفراد يحافظ على حرية أفراده في الإختيار وترشيح من يظن أنه يستحق هذا المنصب القيادي. الحرية المطلقة هنا تصبح مقيدة ولكن هذه القيود ضرورية لضمان حرية المجتمع ككل، الفرد هنا حر ولكن بشرط أن لا يتعدى القانون فالشعب الحر ليس له أسياد سوى القانون.

أما الحرية الشخصية، فلا يمكن للفرد أن يكون صالحاً بدون قيمٍ شخصية ترعى وجوده الروحي. ولذى يرى روسو أهمية وجود دين مدني في المجتمع، وسماه ديناً مدنياً لأنه يرى أن الكنيسة وتعاليمها الرجعية لا تصلح لمجتمعه المتقدم، أراد روسو ديناً يغرس قيم الحرية والمساواة والإخاء وحب الوطن والشجاعة والإستقامة وإحترام القانون في ضمير الأفراد ليُكوِنوا مجتماً متحداً يحترم بعضه بعضاً رغم إختلاف آرائهم.

لروسو كتب مهمة أخرى تستحق الدراسة أمثال "أميل"، "الإعترافات"، و "هيلويز الجديد". كانت أفكاره سباقة لعصره إذ أنها أثرت في كل الثورات العظمى التي أتت من بعده بدءاً بالثورة الفرنسية التي إندلعت أحداثها بعد ١١ عاماً فقط من وفاته ليتبنى الثوريون أفكاره وقيمه في الحرية والمساواة والإخاء. إلى مثاليات القرن ١٩، والإشتراكية التي سادت العالم في القرن ٢٠ ومجازرها، وصولاً إلى الأفكار الفاشية والثورات الإجتماعية في ستينيات القرن الماضي. كل هذه التحولات السياسية والإجتماعية تحتوي على بعضٍ من أفكار روسو في بحثه عن المجتمع المثالي.

السبيل إلى حرية الشعوب:

في عالمنا العربي الثائر، قد نحتاج لقلب الصفحات من حين لآخر لتعلم قيم الآخرين لننظر أين نحن منهم، نعاني من مشكلة حقيقية في فهم معنى الحرية، ماذا تعني أن تكون حراً؟ هل تعني أن تكون كالقرد الشارد في أذغال الكونغو تفعل ما تشاء وكيف ما تشاء؟ أم تعني أن تكون حراً في حياة كريمة مقننة ذات حقوق وواجبات؟

لماذا لا نتعلم معنى الحرية قبل أن نطلبها ونصيح بها؟ الحرية تعني حرية الحياة بحيث لا يمكن لأحد أن يقتلك بدون وجه حق، حرية الملكية والإستقلال الذاتي، حرية القيم والأخلاق والأفكار بحيث لا يمكن لأحد أن يسخر او يعاقب أحداً بسبب أفكاره بدون وجه حق. حرية الإختيار وإنتخاب من يمثله ويتحدث بصوته. عندما يفقد الإنسان كل أو بعض هذه الحقوق والحريات يفقد بعضاً من إنسانيته.

كل هذه الأنواع من الحريات تتحول إلى جزء من الحرية العامة للمجتمع بأسره والتي تصونه الدولة بحيث تقوم ب:

- الحفاظ على أمن وإستقرار المواطنين

- الحفاظ على الإستقلال الذاتي لكل فرد بحيث لا يمكن لأحد أن يسلبه هذه الحرية

- الحفاظ على العدالة والمساواة وحفظ القانون وتطبيقه على الكل

- غرس القيم والأخلاق الحميدة من رحمة وحفظٍ للأمانة وتعليم أهمية المسؤولية وإحترام القانون.

- الديمقراطية وتداول السلطة عبر إختيار من يمثلون الشعب ويتمتعون بثقتهم.

تثور الشعوب وبكل بساطة بحثاً عن إنسانيتها، فلا شيء أهم من إنسانية الإنسان، ولا شيء أقبح من أن يفقد هذه الإنسانية بسلب حريته وإختياره منه، وعدم مساواته مع الآخرين في الحقوق والواجبات وطمس صوته بحيث لا يمكن له أن يعبر عن أفكاره سياسياً أو أدبياً. شعوب العالم الثالث تعيش مكبلة بالأغلال لأنها لم تجد بعد تلك القيم السامية التي توحدها، على الفرد أن يستقل بذاته بأن يعرف ماهيته كإنسان وقيمته في الحياة ليُكوِن خلية تشاركه هذه الأفكار والقيم السامية، حينها يمكنه كسر أغلال الظلم والإستبداد وعندها يكون جاهزاً ليضحي بحريته الشخصية ذات المرجعيات المختلفة من أجل حرية المجتمع بأسره.

14.12.13


الصومال: عبد الولي شيخ أحمد رئيساً للوزراء بعد شيردون

سمى الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود الخبير الإقتصادي عبدالولي شيخ أحمد رئيساً للوزراء خلفاً لعبدي فارح شيردون الذي سحب البرلمان الثقة من حكومته بداية هذا الشهر. منهياً بهذا القرار الشلل السياسي الذي دام أسابيع في الوقت الذي تحاول البلاد الحفاظ على مكاسباتها الأمنية الهشة ضد المتشددين. 

عبد الولي شيخ أحمد، والبالغ 54 عاماً،  ذو الجنسية الكندية، خريج الإقتصاد من جامعة أوتاوا وعمل في البنك الكندي قبل أن يغادره قبل عقد من الزمن وينتقل للعمل في البنك الإسلامي للتنمية في المملكة السعودية. ورغم قلة خبرته السياسية إلا أن رئيس الدولة زكاه قائلاً في المؤتمر الصحفي الذي أقيم الخميس في ڤيلا صوماليا: "لقد وجدنا أن عبدالولي شيخ هو الأنسب ليكون رئيس وزراء الصومال" راجياً له التوفيق في عمله قائلاً: "نأمل أن ينجح في تحريك الصومال قدماً."

وقال أحمد بعد تسميته للمنصب: "آمل بأن أنجح في أداء مهامي بالشكل المطلوب، وحين موافقة البرلمان على ترشيحي فسأقوم فوراً بتشكيل حكومة من الطراز الرفيع" 

عندما أُنتخب محمود ليكون رئيساً للصومال قبل 15 شهراً كان كرئيس وزرائه الجديد، لم تكن لديه أي خبرة سياسية تذكر ولكنه كان أكاديمياً معروفاً، ولعل هذا هو ما دفعه للبحث عن رجل لم تتلطخ يداه بالسياسة الصومالية الشائكة بعد. 

ولد شيخ أحمد في محافظة جدو، تحديداً في مدينة بارديرا. تخرج من جامع الصومال الوطنية في مقديشو حاصلاً على درجة اللوريا (الباكاليريوس) في الإقتصاد، وعمل بعدها مديراً عاماً لتسويق الثروة الحيوانية في وكالة الصحة ما بين 1984-1990.

بعد إندلاع الحرب الأهلية في 1991 غادر أحمد البلاد ليكون الرئيس التنفيذي لشركة MISK ويتنقل بين مكاتبها في نيروبي وجيبوتي وصنعاء حيث عمل جنباً الى جنب مع برامج إغاثية عديدة منها USAID، وظل في منصبه حتى غادر الشركة في 1998 حيث إنتقل الى كندا ليعمل في جامعة أوتاوا كمحللاً إقتصادياً للتنمية الدولية والتجارة العالمية وكباحث مساعد فيها. 

في 2003 غادر أحمد كندا ليعمل مديراً للبرامج التنموية في الإتحاد الإفريقي وبعدها عمل مستشاراً للسوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا قبل أن يغادرها إلى البنك الإسلامي في جدة.

أحمد ذو كفاءة عالية في التمنية الإقتصادية والتجارة العالمية مع خبرة تزيد على العشرين عاماً معظمها في المناصب القيادية داخل المنظمات والشركات الرائدة في مجالات التنمية الإقليمية والدولية بما في ذلك البنك الإسلامي للتنمية، البنك الكندي، والبنك العالمي، والإتحاد الإفريقي والإتحاد الأوروبي. 

عاش وعمل أحمد في دول القرن الإفريقي ووسط وغرب إفريقيا، ومعظم الدول العربية بالإضافة إلى العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا. يتحدث أحمد الإنجليزية والإيطالية بطلاقة بالإضافة الى الفرنسية والعربية.

هذه المؤهلات العلمية وحنكته الإقتصادية وتعامله لسنوات مع برامج تنموية عديدة هي ما جعلته الرجل الأنسب للمهمة بحسب قول رئيس الدولة: "رغم صعوبة العقبات الإقتصادية التي نعانيها إلا أنني واثق من أنه يمتلك ما يؤهله لإحداث تغييرات إيجابية في وقت زمني قصير" وأضاف: "وأدعو البرلمان للموافقة على تعيينه في أقرب وقت حفاظاً على مصلحة الصومال."

12.12.13


الشارع الصومالي اليوم إعتاد على مفهوم القبيلة، لا حرج أن يستوقفك أحدهم ليتعرف على إسم قبيلتك وبعدها يصنفك حسب نظرته لتلك القبيلة. ولكن هذا لم يكن الحال في الصومال أبداً، بل هو مرضٌ إنتشر بعد سقوط الدولة لتصبح القبيلة هي الدولة والملاذ الآمن من بشاعة الحرب الأهلية وهولتها.

ورغم إيمان الكثير من الصوماليين أن القبيلة لا يمكنها إقامة دول راسخة إلا أنه لا مفر منها لإنعدام حلولٍ عملية تخرج الناس من كنفها، كان الصوماليون -وما يزال بعضهم- يظنون أن المخرج هو في وجود رئيس صومالي قوي ومجموعة متوازنة من ممثلي القبائل في البرلمان أو حتى رجل عسكري يأخذ بزمام الأمور ويكون مدعوماً من الغرب والدول المجاورة. ولكن كل هذه الأشياء مجرد مسكنات ألم ولن يدوم مفعولها لعقود أو لقرون عديدة، فهناك مشكلة حقيقية يجب إستئصالها لا تطبيبها وسترها.

إذاً نحن بحاجة إلى تمهيد الطريق لنظام مستقر قابل للصمود ضد أي مشاكل أو خلافات مستقبلية، علينا أن ننظر حولنا ونعود إلى دروس التاريخ لكي نبحث عن مخرجٍ لهذه المشكلة. لا حرج في التعلم من تجارب الآخرين فمشاكلنا ليست نادرة بل هي صنع الحالة التي عشناها والمخرج منها هو في تعطيل دور القبيلة بالكامل أو إضعافها في الحياة بحيث لا يكون لها قيمة وتكون الدولة تدير نفسها بنفسها خارج إطار الفصل القبلي والإجتماعي بين أبناء الشعب الواحد.

عبر مر العصور، قامت الحروب حول العالم بسبب الرغبة الجامحة في السلطة، للإستيلاء على مكتسبات الآخر، وعليه فكان على الضعيف أن يتعايش مع القوي ويرضخ لحكمه أو أن يتعلم وبسرعة كيف يكون أقوى منه ليهزمه ويسترد حقوقه، الأمر الذي يأدي الى صراع مستمر لا هوادة فيه، ومع مرور الوقت يضعف أحد الطرفين وينتهي ليتفرد الآخر بالسلطة ويقيم سبل الحكم التي تروق له بدون أي مراعاة للحقوق والمسؤليات.

ولكن بعض الشعوب قررت ترسيخ قيم نبيلة للحفاظ على حقوق الجمتمع، فكانت الدساتير والمعاهدات وإستقلال القضاء وفصل السلطات ليعم الإستقرار والأمان. أما في الشعوب التي لم تصل إلى هذه المرحلة بعد كالصومال وغيرها من الدول العربية فهي لا تزال تعاني من تقسيم المجتمع الى مجموعات قبلية مختلفة وتحاول يائسة دمج هذه الفكرة في الحياة السياسية كطريقة لتقاسم السلطة فيما بينها. 

في الصومال كان هذا النظام القبلي قائماً في البادية والأرياف لإنعدام أو ضعف سلطة الدولة هناك، ولم يكن لهذا المفهوم أثرٌ يذكر في المدن، حيث الشرطة والقضاء والنظام الإداري والتجارة والتعامل الحضاري مع العالم الخارجي. بعد كثرة الخلافات السياسية ونشوب الحرب الأهلية بدأ أبناء المدن بالإستعانة بأقاربهم من البادية فجاء هؤلاء ليعيشوا في المدن وليقاتلوا دفاعاً عن قبائلهم وطلباً للسلطة والنفوذ. الأمر الذي أعاد إنتاج مفهوم القبيلة ونشرها كالسرطان في كل بقاع الدولة.

ولو نظرنا إلى قيمة القبيلة في حياة الفرد الصومالي نجدها متطابقة مع ما كان ينبغي للدولة إن تقدمه لشعبها: 

١. الأمن: في أي صراع ينشب بين شخصين، تقوم القبيلة بالوقوف مع أبنائها بغض النظر عن كونهم ظلمة أو مظلومين، وكلما كانت قبيلتك أقوى وأكثر عدة وعتاداً كلما قلت خلافاتك وكثر من يحترمك ويرجو ودك. والقبيلة هي أيضاً من تدفع الدية في حال قتل أحد أبنائها فرداً من قبيلة أخرى. الأمر الذي يحفظ حياة هذا الفرد ويزيده ولاء للقبيلة وتمادياً في ظلمه وجوره في بعض الأحيان حيث لا رادع.

٢. السياسة: لا مكان للخبرات والشهادات العالية في عالم السياسة الصومالة، القبيلة هي مصدر القوة والنفوذ،  والأولوية تكون دائماً لأبناء القبائل الأربعة الكبرى. فإن كان الفرد أستاذاً في السياسة وبارعاً فيها ولكن لم تكن قبيلته ذات قوة وإحترام فلا نصيب له، الأمر الذي فتح البرلمان ومناصب الدولة كلها لأشخاص غير جديرين بها. 

٣. الدعم الإقتصادي: تقوم القبيلة بدعم أبنائها حيث تجمع الأموال لهم وتحاول تحسين ظروف معيشتهم، والأولوية تكون دائماً للأفضل والأعلى نسباً. الأمر الذي يزيد ولاء أفراد القبيلة لقبيلتهم لشعورهم بالامتنان لهم فيكونون جاهزين لرد الجميل إذا طُلب منهم ذلك.  

٤. فرص العمل: تمكن القبيلة الطامحين من أبنائها من تسلم أعلى المناصب المرموقة وتسهل دراستهم في الخارج بفضل ترابط أعضائها وتواجدهم في مناصب سياسية مهمة في الدولة، الأمر الذي يكون طبقة من الأفراد الذين يحاولون تكوين دولة داخل الدولة يكون ولائها للقبيلة لا للعلم أو للأرض. 

وبفضل كل هذه العقبات وغيرها يصبح الشخص غير قادرٍ على طرح أفكار مغايرة لفكر القبيلة بدون خطة واضحة وحلول عملية يمكن تطبيقها على أرض الواقع، فلا يمكن لشخص يخشى على نفسه وأهله وماله أن يتخلى عن قبيلته التي تمثل له الضمان الوحيد لحياة مقبولة في ظل دولة متهالكة غير قادرة على تأمين حياة مواطنيها. لإيجاد هذه الحلول العملية علينا أن ننظر الى غيرنا من الدول لفهم الدروس والعبر التي تمكننا من معالجة هذه المشكلة الإجتماعية. 

خلال الثورة الصناعية في أوروبا، عانى الأوروبيون من مشاكل كثيرة مشابهة لما تعانية القارة الإفريقية اليوم، بسبب تسلط أصحاب المصانع الذين إستغلوا عمالهم بدون تقديم أي تأمينات صحية أو مالية لهم إلا ما يتقاضونه من أجور لا تكفي لسد حاجاتهم اليومية. فكانوا يعملون في هذه المصانع كالعبيد وفقاً لرغبات أرباب العمل. كان الأطفال محرومين من التعلم والنساء محرومات من أبسط الأشياء كالتصويت وإمتلاك العقارات. هذا الظلم لم يتوقف حتى سنت هذه الدول قوانين صارمة تنظم العمل وتعطي تأمينات صحية ومالية للمحتاجين إليها، هذه العدالة الإجتماعية مكنت الأوروبيين من التركيز على سبل تطوير حياتهم وتنظيم مجتمعاتهم. 

أصبح هناك تأمين للأطفال لكي لا يحتاج الآباء الى منعهم من الدراسة بسبب ضيق العيش. وأصبح هناك تأمين للعمال بحيث تعطيهم الدولة ما يسد حاجتهم حتى يجدوا عملاً مناسباً وبهذا تقل تبعيتهم لأعضاء أسرهم وأقاربهم. أصبح هناك قوانين صارمة وجهاز شرطة قوي وقادر على حماية أرواح المواطنين كي لا يطروا الى أخذ حقوقهم بأيديهم. ولتجنب الخلافات السياسية التي قد تدمر البلاد بأسرها وتشعل نار الحر أقروا نظام الديمقراطية وتغيير الحكومات عبر صناديق الإقتراع بدلاً من تغييرها بالعنف وإسالة الدماء كما كان الحال في العصور الوسطى. بهذا أصبح المواطن جزء من الدولة، له حقوق وعليه واجبات فيحس بولاء أكبر للوطن بدلاً من العشيرة. 

رغم أن الوضع مستقر نسبياً في الصومال بالمقارنة بالسنوات الماضية وذلك بعد التوصل لإتفاقيات تحفظ حق القبائل الكبيرة في تقاسم السلطة إلا أن هذه القبائل مستعدة للتخلص من بعضها البعض حين تكون الفرصة سانحة بسبب الحقد وإنعدام الثقة فيما بين هذه القبائل. لذى على الحكومة الحالية أن تضع نصب عينيها أهمية إعادة الصومال الى النظام الحزبي بدلاً من القبلي لتجنب الدولة إنهيارات تكون أعظم مما مر بها حتى الآن، هذه ليسة مهمة سهلة فالأمر يحتاج إلى قيادة حكيمة وعمل دئوب لتحقيقه. 

على الحكومة أن تبني دولة قوية تفحفظ حقوق الناس وتجعلهم متساوين أمام القانون وتأمن أرواحهم وممتلكاتهم عبر جهازي شرطة وقضاء نزيهين، وعليها أيضاً أن تمنح فرص عمل كريمة للجميع مواطنيها بدون محاباة أو تمييز، بالإضافة الى رعاية حقوق الطفل والمرأة وكفالة المحتاجين من مواطنيها وتأمين حياتهم. هذه الأمور وغيرها ستخفف من ولاء الأفراد لقبائلهم وتجعلهم يلتفتون إلى بناء وطنهم لكي يزدهر وينافس غيره من بلدان العالم. 

أبى عامنا هذا أن يرحل قبل أن يسدد إلينا ضربة موجعة أخرى بوفاة المناضل التاريخي وزعيم الجنوب أفريقا السابق نيلسون مانديلا، ذاك الذي إستطاع أن يوثق مفهوم القيادة الحقيقي للأمم، في وقت أصبح مفهوم القائد هلامياً غير واضح في عالمنا المتناحر. فما الذي جعل مانديلا قائداً فذاً وما الذي مكنه من النجاح الباهر في وطنه بل وفي العالم كله؟ كيف إستطاع أن ينسى آلام الماضي وينظر الى غدٍ مشرق؟

نحن أحوج شعوب العالم لدراسة تعاليم مانديلا والإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي تدور حوله، فرغم سماحة ديننا إلا أنه أصبح لا يلتفت إليه إلا في رمضان أو في المناسبات التقليدية. فلا علمائنا قادرون على ربط تعاليم الدين بمرارة الحياة لإستخراج الحلول العملية منه ولا الشباب مستعدون للإصغاء الى ترانيمهم المتكررة والخالية من أي قيمة روحية ملموسة لتغيير واقعهم. فكان لا بد من إيجاد أشخاص معاصرين للتعلم منهم وربط تعاليمهم بسماحة ديننا الذي لا يحده وقتٌ ولا مكان.

جنوب إفريقيا تمثل بصيص أمل حقيقي لكل الشعوب التي أنهكتها الخلافات وتبحث عن مخرجٍ للتعايش بسلام بينها. ولكن جنوب إفريقيا ما كانت لتصل الى هذه المرحلة من التعايش السلمي لولا تضحية أبنائها وتواجد قادة مخلصين لهذه الأهداف النبيلة. هؤلاء القادة وعلى رأسهم مانديلا عرفوا كيف لهم أن يخوضوا الحرب من أجل السلام، من أجل التساوي والتعايش المتكافئ لشعبهم. لم يقاتلوا من أجل حزبهم أو قبيلتهم، بل قاتلوا من أجل جنوب إفريقيا ديمقراطية تحتوي الجميع. وهذا ما علينا أن نفهمه بشكلٍ واضح، فمانديلا لم يكن غاندي ولم يكن لوثر كينغ بل كان مانديلا المحارب المستعد للسلام إذا تحققت مطالبه.

يقول مانديلا عن نضاله ضد التمييز العنصري: "طيلة حياتي كرست نفسي لنضال الشعوب الإفريقية، لقد قاتلت ضد هيمنة البيض وقاتلت ضد هيمنة السود. آمنت بفكرة الديمقراطية والحرية بحيث يعيش الجميع في وئام وعلى أساسِ تكافؤ الفرص. ذلك هو المثال الذي آمل لأن أعيش لأحققه، ولكن إذا لزم الأمر، فذلك هو المثال الأعلى الذي لن أتردد لأن أموت من أجله."

إذا حللنا مقولته هذه نجد كل مقومات القيادة وشروطها فيه، الرؤية الواضحة، الشجاعة، التحفيز، الشفافية، الحزم وإمكانية التسوية إذا تحققت الشروط. فهل يا ترى في عالمنا العربي نجد رجلاً يمتلك هذه القدرات؟ هل هناك من يعرف إلى أين يقود شعبه أم أن الراعي أعمى بلا بصرٍ ولا بصيرة؟ 

الرجل الذي عوقب بالسجن مدى الحياة مع الأعمال الشاقة في سجن روبن إيلاند الرهيب، خرج الى العالم بعد سبعٍ وعشرين سنة من الصمود والعزيمة الغير متزحزحة ليصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا. خرجل ليكمل نضاله ليتغلب على الحقد وينسى ما تعرض إليه من ظلم من أجل غدٍ أفضل لوطنه. ومع أنه كان بإمكانه التربع على عرش الرئاسة طيلة حياته إلا أنه إكتفى بفترة رئاسية واحدة، ليفسح المجال لغيره وليعلمهم أن القائد الجيد هو من يثق بغيره لا من يستفرد بكل شيء بكل تكبر وإحتقار لقدرات الآخرين ظناً منه أنه المهدي المنتظر والمخلص الأوحد.

مانديلا علمنا الكثير لا من خلال خطبه ولكن من خلال أفعاله، فالقائد الفذ هو من يقود بالمثل، هو ذاك الذي يطبق ما يدرس هو قبل غيره. هنا محاولة لتلخيص أهم ما ترك لنا منانديلا من دروس:


١. ضع بصرك دائماً على الهدف وخطط نحو المستقبل البعيد:

لم تتزحزح رؤيته لوطنه طيلة ال٢٧ عاماً التي قضاها في السجن، وظل على حاله حتى بعد أن خرج ووافقت الحكومة بمطالبه وبالتغيير الديمقراطي. ظل متمسكاً بمبادئه وفي نفس الوقت مستعداً للحوار حول الجزئيات. القيادة الإستراتيجية تتطلب نفساً عميقاً وسعة صدر، لا مكان فيها للعواطف، فقط الهدف والمبادئ الأساسية.

٢. العزيمة والإصرار تدفعك لتجاوز مشاعر الخوف والشك:

القائد الجيد هو من يتمكن من إذابة مشاعره أمام الناس، ظهوره قوياً متماسكاً يشعل الأمل ويوقد فيهم الروح القتالية للإستمرار معه نحو الغاية المرجوة. ذات يوم وعلى متن طائرة صغيرة كانت تقل مانديلا ضمن جولته الإنتخابية في ١٩٩٤، تعطل أحد المحركات وأصيب الركاب بالهلع ولكن تمالكوا أنفسهم بعد أن شاهدوا كيف أن مانديلا كان هادئاً جداً وبدون إنفعالات. فقال لمرافقه فيما بعد: "كنت خائفاً جداً وكاد قلبي أن يتوقف من شدة الخوف ولكن عندما تكون قائداً على رأس جيشٍ ما فعليك أن  لا تظهر الخوف على الإطلاق مهما كان الأمر مخيفاً لكي تلهم الناس وتساعدهم على تخطي الأزمات."

٣. إستمع، حلل ثم قرر: 

في إجتماعاته مع قادته، كان مانديلا يترك المقدمة لهم، يجلس بصمت ويستمع إليهم ليتحاوروا فيما بينهم. بعدها يحلل كل رأي وفكرة ويلخصها محاولاً أن يرى كيف  تتطابق هذه الأفكار مع رأيه ثم يدلي بما لديه. فيظن كل واحدٍ منهم أنه هو من صنع القرار وأن مانديلا أخذ برأيه. كان يقول دائماً لكي تعطي الناس فرصة للقادة ما عليك إلا أن تشعرهم بأن القرار من صنع أيديهم.

٤. إعرف عدوك وفكر مثله كي تتجنبه وتغلبه: 

قال مانديلا مرةً: "في محاربة الأعداء عليك أن تتحدث لغتهم لكي تفهم أفكارهم وهمساتهم وسهواتهم." السياسة والحرب لعبتان مختلفتان وفي نفس الوقت متشابهتان، هناك هدف وهناك وسائل للوصول إلى ذاك الهدف، مانديلا قرر أن عليه فهم قوانين اللعبة وتكتيكاتها إذا أراد أن يلعبها ويهزم أعدائه. كان بارعاً في قراءة خصومه، ماهراً في إستدراجهم حيث يريد بحيث يوهمهم بأنهم كسبوا شيءً ما وفي الحقيقة هم الذين خسروا. 

٥. قرب أصدقائك وإجعل أعدائك أقرب منهم: 

كان يؤمن مانديلا أن أفضل طريقة لإحتواء أعدائه هي بوضعهم إلى جانبه كي يَأمن شرهم وخططهم الإنقلابية عليه، كان يقرب كل الذين لا يثق بهم وكان يستشيرهم ويجعلهم أقرب ما يكونون إلى مراكز صنع القرار ليحسوا بأنهم مرغوبٌ فيهم وأن بإمكانهم الثقة بهذا الرجل.

٦. المظاهر تعني الكثير وتذكر أن تبتسم: 

لقد عرف مانديلا منذ بداية ثورته أهمية الصور والمظاهر ومدى تأثير الإعلام على رأي الناس، كان يعتني كثيراً بمظهره وكان يختار أفضل التعابير لشرح قضيته، لم يستعدي البيض ولم يقل لهم سأبيدكم من أرض أجدادي بل قال لهم هذه أرضنا جميعاً وهناك مساحة للكل. ولم يشعر السود بأنه باع قضيتهم بل أشعرهم بأنه سيموت من أجلهم ولن يتزحزح أو يستسلم لمطالب أعدائه. كان مهتماً جداً بالصور التي يلتقطونها له ولجناحه العسكري ليظهر لأعدائه أنه قوي وحازم وكان يعلم أن الرموز والشعارات أقوى من الكلمات إذ أنها تبقى في ذهن الناس وتساعدهم على تذكر الكلمات المعبرة عن هذه الرموز. 

٧. لا شيء واضحٌ في السياسة:

في نظر مانديلا، الأمور لا تقاس بالأبيض والأسود، إما معي أو ضدي، بل هي بحرٌ شاسع من الإختيارات وماعليك فعله هو التستر على أوراقك وإيهام عدوك بأنك تملك الكثير منها. أشعره بأنه الأضعف وأنه لن ينتصر وسيهزم ولو بعد حين. 

٨. التراجع والإعتذار من صفات القادة: 

لم يكن مانديلا دكتاتوراً متسلطاً بل كان مستعداً للتراجع عن مقترحاته بكل أريحية إذا هي لم تنل إعجاب الأغلبية، كان مستعداً للرضوخ لأمر الجماعة بعد أن يستشيرهم ولم يقل لهم أبداً "إني أذكى منكم" بل كان متواضعاً جداً وبدون تكلف. 

رغم أن مشروع جنوب إفريقيا نحو العدالة الإجتماعية ونبذ العنصرية مازال مستمراً إلا أنه على الطريق الصحيح. وخاصة بعد نجاحهم في تحقيق العدالة الإنتقالية والتي تقوم على الإعتراف بالجرائم الشنيعة التي إرتُكبت إبان حقبة الفصل العنصري والعفو عنها كي تتقدم الأمة، وتوثيقها كي تتعلم منها الأجيال القادمة ولا ترتكب نفي الأخطاء. هذا ما نحتاج إليه في عالمنا العربي، هناك الكثير من الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد ولا يوجد قادة أكفياء بإمكانهم الجلوس سوياً لإطفاء نار الماضي وبناء مستقبل أفضل لشعوبهم.

نحن كأمة مسلمة أولى بهذا المفهوم الديني والإنساني من مانديلا، ولكن مانديلا فكرة والأفكار لا تموت بل تنمو وتستمر، علينا أن نقف وقفة صريحة مع أنفسنا لكي نراجع معتقداتنا ونتخلص من الحمل الثقيل في قلوبنا من كراهية وتكبر وإقصاء وظلم لكي نفهم مبادئ التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة. وبد الإنشغال في هل مانديلا في النار أم في الجنة علينا أن ننشغل بهل سندخل نحن النار أم الجنة وهل نمتلك القدرة لقيادة أمتنا والنجاة بها من مستنقعات الجاهلية والأفكار العنصرية إلى سعة الإيخاء والعدالة وتقاسم السلطة والمكتسبات. 

9.12.13


بحمد الله أتممت هدفي الشخصي لقراءة 25 كتاب سنوياً ومازال لدي بعض الكتب سأقرأها قبل نهاية العام.. وإليكم ما قرأت لهذا العام 2013

Death with Interruptions
The Stone Raft
The History of the Siege of Lisbon
Of Mice and Men
All the Names
ساعي البريد
The Elephant's Journey
Blindness
1984
Animal Farm
Narcissus and Goldmund
One Hundred Years of Solitude
The Pilgrimage
The Stranger
The Fountainhead
Thus Spoke Zarathustra
The Tower
The Key
Sanctus
الاعترافات
Demian
Steppenwolf
Siddhartha
Thinking Architecture
The Man Who Mistook His Wife for a Hat and Other Clinical Tales
The Mind's Eye
Galilee
The Prague Cemetery
Swann's Way
Phenomenology of Spirit
Alice in Wonderland and Philosophy: Curiouser And Curiouser
المفاتيح العشرة للنجاح



نقدم اليكم العدد الثاني من مجلتكم من الصومال بالعربية، مجلة صومالية ثقافية تهتم بشؤون الصومال الكبير. أسرة المجلة تتوجه بالشكر الخالص لكل من ساهم في هذا العمل إخراجاً وكتابة وتصميماً، ونتمنى من الله أن تنال إعجابكم وأن تكون صورة مشرقة لتغيير نظرة العالم الى منطقتنا. 



واليكم العدد الثاني مرفوعاً على عدة مواقع للتصفح المباشر:
ولتنزل المجلة بجودة عالية: 

وهنا تجدون العدد الاول من المجلة :

باب المشاركة بالمجلة مفتوح وما عليكم سوى ارسال مشاركاتكم المنقحة الى بريد الصفحة:

قراءة ممتعة للجميع.

15.11.13



20131115-032401 pm.jpg

إحتل الفيلم الجديد "كابتن فيليبس" للمخرج البريطاني بول غرينغراس إهتمام الاوساط الثقافية العربية وخاصة الصومالية منها. الفيلم ببطولة توم هانكس ممثلاً لدور الكبتن الحقيقي للسفينة التي إعتلاها اربعة قراصنة صوماليين في خليج عدن في عام 2009، هذه كانت هي الحادثة الأولى من نوعها ضد سفينة أميركية منذ ٢٠٠ سنة. يرتكز الفيلم على مذكرات قبطان السفينة نفسها ريتشارد فيليبس والذي نجى بإعجوبة من قبضة القراصنة بعد إنقاذ قواز البحرية الأمريكية له.

بول غرينغراس مخرج الفيلم متخصص بجدارة في الأفلام المستوحاة من قصص واقعية، ظهر نجمه متجلياً في "يونيتد 93 (2007)" و "المنطقة الخضراء (2010)" الامر الذي جعله الرجل المناسب لان يجسد قصة الكبتن ريتشارد فيلبس.

تبدأت احداث الفلم في منزل فيلبس وهو يجهز نفسه للسفر الى صلالة في عُمان ليتسلم مهامه كقبطان للسفينة الامريكية "ميريسك ألاباما"، وبعدها نراه يقود سيارته مع زوجته اندريا فيلبس والتي تقول له: "تظن أن رحلاتك الكثيرة هذه تزداد سهولة ولكن العكس صحيح" في حوارٍ طبيعي ين زوجين يعانيان من هموم الحياة وشقاوة الابناء المراهقين وخوف الزوجة على زوجها. ثم يطير فيلبس من ولاية فيرمونت الى عُمان، ليأخذنا غرينغراس بعدها الى مدينة أيل الصومالية في محافظة نوغال في بونتلاند، تلك المدينة التاريخية العريقة التي إختارها القراصنة عاصمة لهم نظراً لمكانها الاستراتيجي بالقرب من خليج عدن.

هنا نجد القراصنة يستعدون ليوم آخر من العمل، حيث يرعبون الأهالي ويجمعون أنفسهم في مكان واحد لإختيار عصابتهم لهذه الرحلة. هذا المشهد يوضح أشياء قد تخفى على الكثيرين، فهو من جهة يوضح مدى خوف الأهالي من القراصنة وخاصة زعمائهم ويوضح أيضاً مدى الفقر المضقع الذي يعيشه هؤلاء الصيادون السابقون قبل ان يرموا شباكهم ويحملوا رشاشاتهم.

نلاحظ أيضاً مدى الثراء الفاحش عند قادة القراصنة إذ نجدهم في سيارات دفع رباعية فارهة وحرس خاص تظنهم وكأنهم من القوات الخاصة. وتحت ضغط هؤلاء الحرس يعود القراصنة الى البحر مرغومين لكي يسعدوا قادتهم ويظلوا هم في فقرهم تحت قهر الظلم وقوة السلاح. غرينغراس هنا قام بشيء لم يسبقه اليه احد، فلقد وضح وبدون مبالغة قسوة ما يعيشه هؤلاء القراصنة، فرغم نجاحاتهم السابقة في نهب السفن وطلب الملايين كفدية إلا انهم مازالوا كما هم، لم يتغيرب أي شيء يذكر في حياتهم من مسكن أو مأكل أو مشرب.

هنا تتسارع الأحداث، حيث يصل فيليبس الى سفينته ويبداء في تأمينها ورفع التأهب فيها خشية أن يستولي القراصنة عليها، في الجانب الآخر نلاحظ خلافاً بين القراصنة حيث أن شاباً يدعى عبدالولي موسى (والذي يمثل دوره بركات عبدي) يريد ان ينافس القائد الحالي لهذه الرحلة، ففي المحاولة الأولى للاستيلاء على "ميريسك ألاباما" نشاهد قاربين سريعين إنطلقا من المركب الأم للقراصنة بعد مشاهدة ألاباما بوحدها في قلب المحيط، تفشل المحاولة بعد أن تم ملاحظتهم وإيهامهم بأن القوات الأمريكية ستأتي لنجدة ألاباما في غضون عشر دقائق، وعليه فإن قائد القراصنة يتوقف ويعود بقاربه، أما موسى فإنه يستمر حتى يتعطل محركه.

في المركب الأم يصفي موسى حسابه مع القائد ويتخلص منه ليصبح هو القائد وليذهب الى ألاباما في الصباح بقاربٍ أسرع وأخف، آخذاً معه ثلاثة من خيرة رجاله، وهم ناجي (يمثله فيصل أحمد) و بلال (يمثله برخاد عبدالرحمن) و علمي (يمثله مهد علي) . ينجح موسى ورجاله بالاستيلاء على ألاباما ولكنهم ولقلة عددهم يصادفون مشاكل كثيرة للتحكم بشكلٍ تامٍ على السفينة. في هذه الأثناء نلاحظ مدى التخبط وعدم التخطيط اللوجيكي لما يقومون به، فنراهم يتشاجرون ويصرخون على بعضهم بشكلٍ فوضاوي، لنفهم من هذا أن هؤلاء الفتية الأربعة ليسوا الا صيادين بسطاء قادهم اليأس الى ما يقومون به بدون أي خبرة إجرامي سابقة.

ومع هذا كله فإن موسى يبدو الاكثر تمالكاً للنفس، اذ يهدئ رجاله ويقول لفيليبس: "كبتن لن يتأذى أحد إن صارحتنا وتوقفت عن اللعب معنا، نحن هنا لإتمام صفقة مالية لا أكثر ولا أقل، نحن لسنا إرهابيين.. إسترخي أيها الكبتن إسترخي سيكون كل شيء على ما يرام فأنا الكبتن الآن"






تستمر أحداث الفيلم متسارعة بشكلٍ إثاري يجعلك لا تصدق أن هذا حدث فعلاً بفضل عبقرية غرينغراس الإخراجية وخبرة هانكس في تصوير هلع فيليبس ومحاولاته التخلص من القراصنة والنجاة بسفينته وطامها، ولكن ما جعل الفلم مختلفاً عن غيره هو إستخدام المخرج لممثليين صوماليين أكفياء من أمريكا وبريطانيا. بعض هؤلاء الممثلون ذو خبرة تمثيلية في المسرح وبعضهم يدرس التمثيل ولكن معظمهم لم يمثل قط مثل بركات عبدي من مدنة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا الأمريكية، والذي حصل على الدور بدون أي خبرة مسرحية او تمثيلية مسبقة، ومع هذا أجاد الدور بشلٍ رائع.

وهذا شيء آخر يضاف الى محاسن هذا الفيلم، إذ أنه لم يكتفي بقص قصة القراصنة بكل موضوعية بل إنه يظهر لنا أن الصوماليين ليسوا فقط من القراصنة الذين يرعبون البحر أو من الشباب الذين يفجرون ويقتلون ويكفرون. بل هناك العديد من الأمثلاة المضيئة أمثال بركات وأصدقائه الذين حاولوا جاهدين إتقان أدوارهم بكل حرفية وبإمتياز، وكل ما إحتاجوا إليه هو أن يعطوا فرصة لإظهار مواهبهم وأن يثق أحدٌ بهم وبقدراتهم.

قصة بركات عبدي نفسها تستحق أن تروى في رواية أو في فيلم، إذ انه عايش الحرب الأهلية ومصائبها منذ أن كان فييالسادسة من عمره، يذكر هنا في إحدى لقائاته التلفزيونية أنه يذكر أصوات طلقات الرصاص وأنه هو وأخوه كانا يلعبان معاً لعبة تخمين إسم السلاح الذي تطلق منه كل رصاصة! وها هو اليوم يعيش "الحلم الأمريكي"






خلاصة القول هي أن القرصنة في الصومال كانت مخرجاً للكثير من الشباب والأسر المنهكة والتي ضاقت بهم هبة البحر بفضل السفن العملاقة التي نهبت خيرات وطنهم البحرية ومنعتهم في بعض الاحيان حتى من الصيد بجانبهم، فأصبح هؤلاء الصيادون 'خفر سواحل' بزعمهم، ولكن الامر تفاقم حتى أصبحت القرصنة عملاً ممنهجاً يديرها كبار زعماء المافيا والجريمة المنظمة في إفريقيا وآسيا وأوروبا وربما حتى في أمريكا نفسها، وهؤلاء السادة هم من يستلمون الملايين ويرسلون للقراصنة ما هو أقل من واحد في المئة من أموال الفدية.

ففي وطن أنهكته الفوضى أكثر من إنهاك الحرب له، لا يمكنك ان تستغرب وتقول لماذا يفعل هؤلاء ما يفعلونه، فما الاختيارات المتاحة لهم؟ فلا دراسة ولا فرص عمل لتأمين قوت عوائلهم، ولا حكومة قوية يمكنها إجتثاث القبلية والجشع من المجتمع. وهذا تماماً ما يحاول الفيلم إيضاحه، فهو لا يتعالى على القراصنة بإظهارهم كوحوش تمص دماء الابرياء بإنتظار المخلص الأمريكي كما عودت ل السينما الهوليوودية، بل ورغم إختلافك وكرهك لما يقومون به هؤلاء يجعلك الفيلم تتفهمهم وتتمنى أن لا يضعك القدر في أقدامهم، تاركاً المشاهد في حالة من التفكير والمساءلة لما تقوم به دوله حيال أمر القراصنة. هذا الأمر يتجلى في حوارات موسى مع فيليبس، حيث يقول الاول للآخر: "حلمي هو أن أذهب الى أمريكا وأشتري سيارة وأعيش في نيويور" ولكنه في قلب المحيط يصداد السفن ويخاطر بنفسه بدون أي تردد.



20131115-032608 pm.jpg

ولعل بركات هو من حقق حلم موسى بشلٍ أو بآخر، إذ مثل جنباً لجنب مع أشهر ممثلي هوليود، توم هانكس، بدون أي خبرة مسبقة في التمثيل وبدون أن نشعر أي فرق بين أدائه وأداء هانكس، لا بل ينافسه في الصدارة وفي بطولته للفيلم. تراجيديا هذه الحياة الصعبة تجعلك تقول لنفسك: "ماذا لو"، ماذا لو أن الحرب الأهلية الصومالية لم تحدث، لو أن موسى ورفاقه لم يركبوا البحر، لو أن الصوماليين أعطوا فرصة كافية للحياة الكريمة وإثبات النفس.

8.11.13



20131109-011440 am.jpg

ونهرع اليك، وكان درباً من الاغنيات الحزينة لم يكن بيننا، فسلامٌ عليك... يوم تأتي الينا كنور الشمس بعد المغيب، كرائحة البنفسج في قلب آذار.. كقطرةٍ تغسل الدمع الجاف في آب.. وكأن نار الشوق لم تكوي القلوب! وكانني... لم امت خمسين الف مرة في غيابك!.. وكأنك قلت للوقت الذي كان بيننا قف هاهنا اني عائد... فخذني اليك.. وحدثني حتى القيامة عن غيابك، عن رحيلك الى زحل، حدثني اين كنت قبل ان اولد، كم حياةً استنفذت وكم روحاً مبعثرة بين القرون تركت؟

وها نحن اليك، فصب لنا في الرؤوس قدحاً من أحلام الصبا، وإعزف لنا على أوتار الذكريات سنفونية تبدد النستلجا فينا... وإرسم.. على الوجوه الكليحة لوحة من شجن، غرد لنا كالكناري، كهدهد سليمان، قص لنا أفعال بلقيس وبدد وحشة العزلة الالفية فينا. يا سوسني.. إني نظرت للكون البعيد وإنني مستلزمٌ، اطوي صفحة النجوم بحثاً عنك وها انت في الصفحة الاخيرة.. حيث انت كما انت مذ عرفتك.

موطني.. ما كنت يوماً الا حفنة ترابٍ بين يديك، وها نحن نعود اليوم اليك، نرتجف شوقاً كأوراق الخريف في يومٍ عاصف.. فخذنا اليك، ضمني اليك تحت احشاء الصخور، بين اكباد الاودية وعيون النهرين حيث الماء عذبٌ كشفاه الباسمات.. وإتركني هناك دعني ارخي الدمع رهواً في ساعديك... موطني شاب الرأس شوقاً اليك فهبلي زمناً يذيب الوداعات والغربة المضنية فيني.

22.10.13



20131023-122315 am.jpg

الافكار الصعبة تأخذ وقتاً طويلاً ليتم إستيعابها لأننا كبشر نكره التغيير ونحب إبقاء الأشياء على ماهي، لذا تجد الفرد منا غير قادر على تصور مستقبلٍ مغايرٍ لما يتعايش معه، فلا هو يريد ان يتغير ولا هو يريد ان يسمح بالتغيير ليحدث في مجتمعه. هنا تجد نفسك في معضلة كبيرة وخاصة اذا كنت تريد الترويج لافكار مختلفة عن النمطيات التي يتداولها "المثقفون" والاعلاميون والسياسيون.

في معظم كتاباتي اجد نفسي ادندن حول هذا الوتر، الا وهو التغيير والسبيل اليه، ولعل السبب هو طريقة تعايشي مع المجتمع الذي انتمي اليه، والذي يعاني من الكثير من المشاكل العميقة والمتأصلة في كونه عدو نفسه، ولكثرة ما أعانيه افضل احياناً أن لا اختلط كثيراً معهم خشية ان أتلوث بعقلياتهم الجاهلية وخشية أن يظن البعض بي مغروراً يرى نفسه المبعوث الرسمي لإنقاظهم مما هم فيه! ولكن لا مفر من اطلاق العنان لهذه الافكار من حين لاخر فلعلها تجد من يستوعبها ويبني عليها. فالتغيير كالبذرة الصغيرة التي يلقيها احدهم في ارضٍ خصبة فتجد من يرعاها ويسقيها لتنمو وتكبر وتزهر بالخير على المجتمع باسره.

لا يخفى على أحد أهمية دور الفرد في بناء مجتمعٍ صالحٍ قادر على انتاج حضارة تعم بالخير والامن والاستقرار، ولكن مهما كانت محاولات الفرد جادة وصادقة في نواياه للتأثير على مجتمعه فانه لن يصل الى غايته الا بالعمل المشترك مع بقية افراد مجتمعه. فالفرد والمجتمع نسيجٌ واحد لا يمكن فصل احدهم من الآخر، وعليه فلابد من تنسيقٍ عملي بين الفرد والمجتمع لتحديد اولوياتهم والتخطيط لاهدافهم. واسبيل الى هذا يكمن في تكوين جماعات صغيرة قابلة للنمو والانتشار، تحمل نفس الافكار الفردية وتسعى الى غاية معلومة وواضحة تحضى بعلاقة جيدة بينها وبين اعضائها من جهة وبينها وبين المجتمع من جهة أخرى.

في كتابه، ميلاد مجتمع، يوضح مالك بن نبي هذه العلاقة ويضع لها نظاماً متكوناً من عناصر ثلاثة:
- حركة يتسم بها المجموع الانساني .
- انتاج لاسباب هذه الحركة.
- تحديد لاتجاهها .

وعليه فإن هذه الجماعة الصغيرة تمهد الطريق لحراكٍ اجتماعي كبير، وتعد الخطط لانتاج هذا الحراك وتصيغ له اولوياته، وبعدها تدرس السبل لقيادة هذا الحراك لكي لا يخرج من اطاره ولا يكون فوضاوياً يضيع جهد المجتمع ويضعه في مشاكل كارثية.

فينظرته الثاقبة يعتبر بن نبي المجتمع كائناً متحركاً مدركاً لاهدافه ويطمح للوصول اليها بشكلٍ جماعي، ولولا هذه الرغبة الجماعية في النهوض والعمل فلا يمكن وصف جماعات الافراد بأنها مجتمع بل مجرد أشخاص لا تجمع بينهم الا الارض التي يعيشون عليها وربمى اللغة وبعض العادات والتقاليد، وهذه الجماعات السكانية التي لا هدف لها هي في الحقيقة كالمجتمعات البدائية في عصور ما قبل التاريخ حيث الهدف الاكبر هو الاكل والشرب واشباع الشهوات، بدون وجود اي هدف جماعي يوحدهم ويدفعهم للتعاون والعمل سوياً.

بالاضافة الى هذا، فإن المجتمع النشيط اما ان يرتقي بنفسه او يهلكها في طريقه الى غايته، وهنا مربط الفرس، فالثورات ما هي لا دفعة تنشيطية للمجتمع، لايقاظه والنهوض به، ولكن المجتمع ان لم يكن له قيادة حكيمة فإن الثورة التي ايقظته قد تقتله وتخمده للابد! وهكذا يكون امام المجتمع خيارات عديدة تصيغها الاحداث المتوالية عليه ولكنه لابد ان يختار، فإما ان يتحرك نحو هدفٍ ما او بعيداً عن خطرٍ ما. وهنا نعود لفكرة الجماعة القائدة للحراك حيث انه لابد منها لتجنب الفرقة وكثرة الصخب ولافكار المتضاربة.

ولكن ماذا لو قرر المجتمع ان لا يختار ولا يتحرك الى او بعيداً عن شيء ما؟ ماذا لو قرر البقاء في مكانه وان لا يغير اي شيء؟ في هذه الحالة يمكن اعتبار هذا المجتمع مجتمعاً في طريقه الى الانهيار والفناء الحتمي، و لتجنب هذا المصير، علينا العمل سوياً لبناء تاريخٍ مشرق نتركه للاجيال امقبلة من خلال التعامل مع العوامل التي تتحكم في صناعة التاريخ والتي ذكرها بن نبي في كتابه ايضاً:
- تأثير عالم الاشخاص
- تأثير عالم الافكار
- تأثير عالم الاشياء

اي ان التاريخ والحضارة التي تصنعه المجتمعات ما هي الا نتيجة للانسان المكافح الذي يقود مجتمعه الى بر الامان ويندمج فيه ويصلح فيه ما استطاع، يليه الفكرة الصائبة والعقليات المخططة للتغيير والابداع وبعدها تأتي المادة والقدرات العلمية والتي تجعل من الاحلام حقائق ملموسة.

مثال هذه العوالم الثلاث نجدها في كتب التاريخ القديم والحديث ولكن لناخذ مثالاً سهلا نوعاً ما؛ الهبوط على سطح القمر مثلاً، هذا الحدث التاريخي كان نتيجة للعمل الدؤوب الذي قامت به ناسا بعلمائها ومفكريها، ولكنه كان فكرة وحلماً وتحدياً بشرياً نطق به كندي مخاطباً بها شعبه، اضافة الى توفر المادة والعلم بها لما تحقق اي شيء. فناسا تتكون من إذاً من افراد وافكار ووسائل علمية تمكنهم من تحقيق اهدافهم.

وعليه فان السبيل لتغيير المجتمع يكون عبر هذه النقاط الثلاث:
١. توحيد الافراد نحو غاية واضحة لابد من الوصول اليها
٢. تواجد مجموعة مفكرة قادرة على معالجة المعلومات ووضع الخطط والاهداف
٣. توفر الامكانيات المادية والعلمية والخذ بالاسباب لتحقيق الغايات.

ولكن ليتحقق هذا، علينا ببناء الافراد القادرين على تحمل هذه المسؤليات أولاً باعادة برمجتهم وتطوير عقولهم ليدركوا انهم عمود المجتمع وان قدراتهم لا يمكن الاستغناء عنها، عبر تغيير الصفات البدائية للفرد من كائن مستهلكٍ كسول الى شخص جادٍ في عمله مخلص فيه مدركاً اهمية العمل في سبيل بناء مجتمعه الفاضل. ولعجزنا عن تحقيق هذافإننا نجد أن معظم اسباب تخلفنا تكمن في هذه النقطة وهي انعدام المسؤلية لدى الفرد وجهله او تجاهله لقيمته في سبيل بناء مجتمعه.

ولعل المشكلة تكمن ايضاً في عدم وجود شبكة قوية من الاحترام المتبادل بين افراد المجتمع. تخيل مثلاً أن خلايا جسمك تحارب بعضها البعض، غير مدركة لدورها الحقيقي في التعايش والتعاون بينها لبناء الاعضاء وترميم الجسد ومحاربة الامراض! لابد من ان هذا الخلل سيفتك بصاحبه إن لم يتدارك الامر ويتعالج بسرعة. ولكننا نعيش هذا التخبط بشكلٍ يومي في مجتمعاتنا ظناً منا بأننا قادرون على العقاء في اكتفاءٍ ذاتي بعيداً عن بقية اعضاء المجتمع وهذا مستحيل وخاصة لو اردت تغيير المجتمع وبنائه والحفاظ عليه للاجيال القادمة.

في واقعنا الاسلامي والعربي خاصة، نجد مجتمعاتنا تعاني لعقود بل لقرون من تفتت العلاقة بين المجتمع والفرد، حيث يعاني الفرد من ضعف علاقاته الفعالة والمأثرة في المجتمع لاسباب عديدة أهمها إحتقار الآخر والتقليل من شأنه وتسلط الاجيال السابقة على اللاحقة وعدم اعطاء فرصة للشباب بالإدلاء باصواتهم، وعليه فإنه من الضروري ايجاد حلول جدية لإعادة صياغة هذه العلاقة بالشكل الذي ينفع الفرد والمجتمع لدفع عجلة التقدم والنهوض بالامة.

إننا اليوم نعيش في مرحلة جديدة من الحراك الشبابي الصاعد، والراغب في التغيير الجذري لدوله، ولكنه سيصاب بالاحباط إن لم يتمكن من تثقيف وإعادة تربية المجتمع بأسره ليتأقلم ويتعلم اهمية العلاقات البشرية بين جميع ابناء الوطن من اجل الوصول الى النهضة المنشودة، ان هذه التربية الاجتماعية ليس لها اي وجود يذكر لا في مدارسنا ولا مساجدنا ولا منتدياتنا، فالكل يطبطب على الجرح ويضع عليه الضماضات بدون محاوله جادة لتطهيره ومعالجته. والحراك الشبابي نفسه يعاني من فقدانه لاهم مكوناته وهي العقول القادرة على قيادته ومعالجة مشاكله الداخلية. وعليه فلابد من ايجاد التوازن بين تربية الافراد لقيادة الامة وبين المجتمع ليتقبلوا التغيير ويثقوا بقياداتهم الجديدة.

إن المجتمعات الناعسة والكسولة لا تستحق الوجود ولا قيمة لها اذ انها فقدت رغبتها القتالية في البقاء وحل المشاكل التي تعانيها، كيف لامة تتجاهل عقول افرادها ان تثمر وتبني وتسابق غيرها؟ الانسان هو ذخر أي امة فبنائه وتربيته والاهتمام به يعني ان هذه الامة بخير إذ أن عقولها الفردية القادرة على الاستمرارية بخير.

نحن بحاجة ماسة لاستغلال مواردنا الكثيرة لمعالجة هذا الموضوع ومناقشته في جميع منابرنا بشكلٍ جاد بدلاً من المواضيع التقليدية المكررة، وإلا فإن المشكلة ستتضخم وسنفقد الامل في امكانية اعادة رسم وجودنا على هذا الكوكب كخير أمة أخرجت للناس، وذلك عبر ايجاد عوامل مشتركة توحد افراد المجتمع وتدفعهم بالايمان بأن أصوتهم مسموعة وجهدهم مشكور ولا فإننا سنكون أتعس حالاً من المجتمعات البدائية التي لا اثر لها ولا عين.

24.8.13



20130824-022213 PM.jpg

يومٌ آخر يمر على عالمنا الاسلامي ونحن كما كنا قبل سبعين سنة، لا جديد في الساحة الا المزيد من الفقر والمرض والحروب والمجاعات والجهل والجاهلية، والكثير من الحقد والعنصرية والإستبداد والظلم. ربما لو كانت دولنا تحت الاستعمار لكان حالنا افضل قليلاً فعلى الاقل لوجدنا من نضع عليه اللوم، فنحن لا ننفع ان نقود انفسنا الا الى التهلكة. ترى لماذا نحن بهذا الغباء؟

في نهاية الحرب العالمية الثانية، كتب الصحفي الروائي البريطاني الشهير جورج أورويل روايةً سماها 1984، يعرض أورويل في روايته هذه تصوراً مشؤماً، يحذير فيها من مستقبل مجهول المعالم، لا قيمة فيه للانسان ككائن حر، هذا السيناريو المستقبلي المخيف يتحدث عن انتشار الاشتراكية وتقسيم العالم الى ثلاث اقطار اشتراكية معادية لبعضها البعض، حيث الحرب بينهم لا تنقطع ويتم تسخير جميع مكتسبات الدول لا للانتصار في الحرب بل لاستمرارها الى مالا نهاية.

تتكون هذه الدولة الاشتراكية التي يعيش فيها بطل الرواية من مجتمعي طبقي بحت، طبقة الحزب الداخلي وهو الحزب الوحيد في الدولة ونسبة اعضائه تمثل ٢٪ من السكان الدولة، وطبقة الحزب الخارجي ونسبتها ١٣٪ من الشعب, وأخيراً الطبقة العامة، وفوق هذه الطبقات الثلاث يوجد الحاكم المسيطر الاوحد "الأخ الأكبر" الذي لا يرى ولا يشيخ ولا يموت، ويعرف كل صغيرة وكبيرة عن شعبه (الزعيم).

وكأن هذه الرواية تحكي حالنا اليوم، تحت القمع والاستبداد والحزب الاوحد الذي لا ند له! هنا تتحقق نبؤات الكاتب بشل ما، مع فرق شاسع في طريقة تعامل الحزب الاوحد مع المشككين فيه، حيث انه في الرواية لا يقتلهم ببساطة بل يغير عقولهم ويعيدهم الى ايمانهم بالحزب ثم يقتلهم بعد ان يقنعهم انهم يستحقون الموت حقاً لخيانتهم العظمى ولا يقتلون الا بعد تصديقهم بانهم حقاً خونة.

فكرة الأخ الأكبر في هذه الرواية تختلف عن غيرها، فهو ليس شخصاً بل نظام مستبد، لا يعاقب شعبه جسدياً بل فكرياً لان تغيير الافكار اصعب من القتل العشوائي، فالشعارات والثورات في ظل حكم الاخ الاكبر يتم التعامل معها بشكل مختلف تماماً، حيث يتم استدراج الناس للاعتقاد بان هناك مقاومة سرية للنظام وبعد وقوعهم في هذا الفخ يتم وضعهم في معسكرات لتطهير العقول، لدرجة التشكيك في كل شيء حتى يشك الشخص في عدد اصابع يده، هل هي اربعة ام خمسة!

وبعد هذا الاصلاح الفكري، يتم ترقية الضحية ووضعها في منصب مرموق في الدولة. هنا يوضح الكاتب اهمية الافكار وخطرها على الانظمة الاستبدادية، فلو نجحت مجموعة من الشعب في تنظيم نفسها ولو بشكل سري في التفكير والتشكيك في النظام فإن هذا بحد ذاته خطر على النظام ولو لم يقم هؤلاء باي عمل ثوري سوى التفكير.

ما اريد قوله هنا هو ان الثورات لا قيمة لها بدون تطهير فكري لشعوبها وبدون فلسفة راسخة تجمع هؤلاء الطامحين في التغيير، الثورة الفرنسية رغم عظمتها ونبل افكارها الا انها كانت بلا قيمة بالمقارنة بالعدد الهائل من القتلى، ومع هذا لم يتحقق منها شيء ملموس الا بعد ٢٠٠ سنة! فبين همجية الثوار والمحاكمات الدرامية التي تنتهي بالركوع تحت المقصلة وبين الجمهوريات الهشة والملكية المتعطشة للثأر يتضح ان لكل ثورة وقت معين يصلح لها ولشعبها ولا يمكن غصبها على المجتمع والا فستكون ردة فعل المجتمع كارثية.

والفكرة الثانية التي احاول ايصاله هنا هي ان النظم القمعية عادة تستنزف كل مكتسبات الوطن وثرواته للاستعداد وقمع اي ثورة قد تطيح بالنظام، ولذا تجد نوعية الاسلحة المكدسة في مخازن الانظمة العربية لا قيمة لها في حرب مفتوحة مع عدو خارجي ولكنها فعالة لقمع اي ثورة داخلية، مسلحةً كانت او سلمية. فالعدو الحقيقي للنظام هو الشعب.

الحاكم المستبد ماهو الا قناع يخفي النظام العميق المتشعب في كل اطراف الدولة، ولولا هذا النظام السرطاني لما صمد القناع. لذا مازلت اقول واكرر ما قلته في مطلع هذه الثورات العربية في ٢٠١١، لتنجح الثورة عليك ان تتخلى عن افكار عديدة، الثورة ليست كلمات رنانة بل خطة عملية فعالة، عبارة "الشعب يريد" لن تجدي نفعاً امام الدبابات والطائرات، لان ارادتك كشعب خطر على النظام، اذاً اذا الشعب يوما اراد الحياة فلابد ان يعمل لها ويخطط لها بشكل دقيق وعملي، لا ان يخرج ويصيح في الطرقات ليل نهار.

قد يزعج كلامي هذا بعض الناس، ولكن ما قيمة تغيير الحكام والرشوى والاختلاس والفساد الاخلاقي وظلم القضاء واستبداد الشرطة ما يزال قائماً كما كان قبل الثورة؟ التغيير الجذري ياخذ الكثير من الجهد والوقت، نحتاج الى سنوات وسنوات من الاصلاح الحقيقي للمجتمع لتغيير أفكار الامة باسرها شخصاً بعد شخص، من شارع الى شارع ومن قرية الى قرية حتى تتحول الأفكار الصعبة والشبه مستحيلة الى بديهيات، وحينها تصبح الثورة حقيقة ملموسة، بدون الحاجة الى وضع تاريخ لها او يومٍ وطني للاحتفال بها.

اظن ان بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم هي افضل مثال لما احاول ايصاله هنا، حيث جلس يدعو قومه بشكل سري في بيئةٍ سادت عليها الوثنيّة والجهل والظلم والاحتقار والطبقية والحميّة الجاهلية، وضاعت فيها معالم الانسانية واحترام حياة الآخر، وهذا تماماً ما نعيشه اليوم في عالمنا الاسلامي بدون استثناء. في هذه المرحلة من الدعوة السرية لم يكن أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - تجاه هذا الواقع سوى أن يؤجّل إعلان دعوته على المجتمع، ويكتفي بدعوة من حوله من الاقرباء سرّاً، حتى لا يكون الصدام العنيف مع الشعب المغيب في ظلمات الجاهلية.

استمرّ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدعوة السرّية أكثر من ثلاث سنوات، ظلّ فيها يعلّم اصحابه حقائق التوحيد بالله عز وجل، ويغرس معاني الإيمان ومكارم الأخلاق، وبهذا تمكن صلى الله عليه وسلم من اعداد النواة الصالحة لمجتمع جديد يقوم على التوحيد والمساواة والعدل. فما كان من هذه النواة الا ان اصبحت هي الطاقة الفاعلة من أجل التغيير المنشود، حيث اصبحوا هم سفراء للرسالة ودافعين عنها وعن قيمها.

وهنا يتضح الفرق بين التخطيط العملي والعاطفة الجياشة، بين الهمجية في اشعال الثورات وبين الدراسة والاعداد الفعلي، مثال هذا هو ما تعيشه مصر اليوم من انقلاب على رئيسها المدني الاول والمنتخب بشكل نزيه وحر، ما قام به اعدائه من حشد وتنسيق وتدبير، ورغم فساد تدبيرهم الا انه يستحق المتابعة، فلقد صبروا ودبروا وخططوا واعدوا العدة لعامٍ كامل وربما اكثر ولكن المهم هنا هو التروي والتخطيط والسرية في حشدهم وتآمرهم.

ومع هذا فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه، فمن يتدبر التاريخ يتضح له ان المظلوم قوي بصموده وعزة نفسه، لا يهزم ولو قتل وسحق وابيد، فالتاريخ يكتب الاحداث كما هي لا كما يريدها الجلاد، ومفهوم النصر ليس في وضع الرايات على مباني العدو وسحقه بل النصر الحقيقي هو بإكتساب قلوب الشعوب وترسيخهم للغاية المرجوة، هذا من جهة ومن الجهة الثانية فعلى المظلوم المطهد ان يدرك حقيقة قرآنية مهمة وهي قوله عز وجل: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ" وقال ايضاً: "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" فالمكر والتخطيط الفاسد مهما كان محكما وناجحاً بشلٍ عملي في الوهلة الاولى الا انه مكرٌ سيئ والمكر السيِّئ لا يحيق إلاَّ بأهله ولو بعد حين.

يقول الفيلسوف والناقد السلوفيني سلافوي جيجك في حديثه عن فلسفة الثورات؛ مشكلة الثورات هي انها بلا هدف حقيقي او اي خطة عملية مبرمجة للتعامل مع التغيرات التي تتبع قيام الثورة، ويرى جيجك ان الثورات ليست الا انذار بأن النظام ليس مرحباً به وأن هناك حاجة حقيقية للتغيير. ولكن الثورات لا تقدم اي حل عملي او اي تصور واضح للتغيير المطلوب. وعليه فإنه ينصح الثوار بان يتوقفوا عن العمل الميداني والخروج والتظاهر وأن يفكروا بشكل عميق لإعداد رُأية مستقبلية واضح للتدرج نحو التغيير المطلوب. ونصيحته الثانية هي العمل بروية وهدوء لتطبيق الخطط العملية الحكيمة التي يعدونها، ويأكد جيجك على أهمية التدرج في تحقيق التغيير المنشود بالتركيز على أشياء عملية يمكن تطبيقها.

كمجتمع شرقي معقد يبدو أن علينا سماع هذه الأفكار من فيلسوف غربي لنعرف سبب فشل ثوراتنا، فالطبقة الحاكمة ستظل تحكم حتى لو تغير القناع الذي يغطي هذا النظام، والظلم سيظل كما هو، والشباب المتحمس اليوم سيفقد الامل ويصاب بالاحباط لعدم وجود اهداف عملية لثوراتهم ولعدم وجود قيادات حكيمة تنصحهم وترشدهم الى ما يطمحون اليه من تغيير. ليس عيباً ان نعيد ترتيب افكارنا من الحين والآخر، ولكن العيب هو القيام بنفس الاخطاء و.توقع نتائج مختلفة.

اعلانات الموقع

 
© 2012. Design by Main-Blogger - Blogger Template and Blogging Stuff