أبى عامنا هذا أن يرحل قبل أن يسدد إلينا ضربة موجعة أخرى بوفاة المناضل التاريخي وزعيم الجنوب أفريقا السابق نيلسون مانديلا، ذاك الذي إستطاع أن يوثق مفهوم القيادة الحقيقي للأمم، في وقت أصبح مفهوم القائد هلامياً غير واضح في عالمنا المتناحر. فما الذي جعل مانديلا قائداً فذاً وما الذي مكنه من النجاح الباهر في وطنه بل وفي العالم كله؟ كيف إستطاع أن ينسى آلام الماضي وينظر الى غدٍ مشرق؟
نحن أحوج شعوب العالم لدراسة تعاليم مانديلا والإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي تدور حوله، فرغم سماحة ديننا إلا أنه أصبح لا يلتفت إليه إلا في رمضان أو في المناسبات التقليدية. فلا علمائنا قادرون على ربط تعاليم الدين بمرارة الحياة لإستخراج الحلول العملية منه ولا الشباب مستعدون للإصغاء الى ترانيمهم المتكررة والخالية من أي قيمة روحية ملموسة لتغيير واقعهم. فكان لا بد من إيجاد أشخاص معاصرين للتعلم منهم وربط تعاليمهم بسماحة ديننا الذي لا يحده وقتٌ ولا مكان.
جنوب إفريقيا تمثل بصيص أمل حقيقي لكل الشعوب التي أنهكتها الخلافات وتبحث عن مخرجٍ للتعايش بسلام بينها. ولكن جنوب إفريقيا ما كانت لتصل الى هذه المرحلة من التعايش السلمي لولا تضحية أبنائها وتواجد قادة مخلصين لهذه الأهداف النبيلة. هؤلاء القادة وعلى رأسهم مانديلا عرفوا كيف لهم أن يخوضوا الحرب من أجل السلام، من أجل التساوي والتعايش المتكافئ لشعبهم. لم يقاتلوا من أجل حزبهم أو قبيلتهم، بل قاتلوا من أجل جنوب إفريقيا ديمقراطية تحتوي الجميع. وهذا ما علينا أن نفهمه بشكلٍ واضح، فمانديلا لم يكن غاندي ولم يكن لوثر كينغ بل كان مانديلا المحارب المستعد للسلام إذا تحققت مطالبه.
يقول مانديلا عن نضاله ضد التمييز العنصري: "طيلة حياتي كرست نفسي لنضال الشعوب الإفريقية، لقد قاتلت ضد هيمنة البيض وقاتلت ضد هيمنة السود. آمنت بفكرة الديمقراطية والحرية بحيث يعيش الجميع في وئام وعلى أساسِ تكافؤ الفرص. ذلك هو المثال الذي آمل لأن أعيش لأحققه، ولكن إذا لزم الأمر، فذلك هو المثال الأعلى الذي لن أتردد لأن أموت من أجله."
إذا حللنا مقولته هذه نجد كل مقومات القيادة وشروطها فيه، الرؤية الواضحة، الشجاعة، التحفيز، الشفافية، الحزم وإمكانية التسوية إذا تحققت الشروط. فهل يا ترى في عالمنا العربي نجد رجلاً يمتلك هذه القدرات؟ هل هناك من يعرف إلى أين يقود شعبه أم أن الراعي أعمى بلا بصرٍ ولا بصيرة؟
الرجل الذي عوقب بالسجن مدى الحياة مع الأعمال الشاقة في سجن روبن إيلاند الرهيب، خرج الى العالم بعد سبعٍ وعشرين سنة من الصمود والعزيمة الغير متزحزحة ليصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا. خرجل ليكمل نضاله ليتغلب على الحقد وينسى ما تعرض إليه من ظلم من أجل غدٍ أفضل لوطنه. ومع أنه كان بإمكانه التربع على عرش الرئاسة طيلة حياته إلا أنه إكتفى بفترة رئاسية واحدة، ليفسح المجال لغيره وليعلمهم أن القائد الجيد هو من يثق بغيره لا من يستفرد بكل شيء بكل تكبر وإحتقار لقدرات الآخرين ظناً منه أنه المهدي المنتظر والمخلص الأوحد.
مانديلا علمنا الكثير لا من خلال خطبه ولكن من خلال أفعاله، فالقائد الفذ هو من يقود بالمثل، هو ذاك الذي يطبق ما يدرس هو قبل غيره. هنا محاولة لتلخيص أهم ما ترك لنا منانديلا من دروس:
١. ضع بصرك دائماً على الهدف وخطط نحو المستقبل البعيد:
لم تتزحزح رؤيته لوطنه طيلة ال٢٧ عاماً التي قضاها في السجن، وظل على حاله حتى بعد أن خرج ووافقت الحكومة بمطالبه وبالتغيير الديمقراطي. ظل متمسكاً بمبادئه وفي نفس الوقت مستعداً للحوار حول الجزئيات. القيادة الإستراتيجية تتطلب نفساً عميقاً وسعة صدر، لا مكان فيها للعواطف، فقط الهدف والمبادئ الأساسية.
٢. العزيمة والإصرار تدفعك لتجاوز مشاعر الخوف والشك:
القائد الجيد هو من يتمكن من إذابة مشاعره أمام الناس، ظهوره قوياً متماسكاً يشعل الأمل ويوقد فيهم الروح القتالية للإستمرار معه نحو الغاية المرجوة. ذات يوم وعلى متن طائرة صغيرة كانت تقل مانديلا ضمن جولته الإنتخابية في ١٩٩٤، تعطل أحد المحركات وأصيب الركاب بالهلع ولكن تمالكوا أنفسهم بعد أن شاهدوا كيف أن مانديلا كان هادئاً جداً وبدون إنفعالات. فقال لمرافقه فيما بعد: "كنت خائفاً جداً وكاد قلبي أن يتوقف من شدة الخوف ولكن عندما تكون قائداً على رأس جيشٍ ما فعليك أن لا تظهر الخوف على الإطلاق مهما كان الأمر مخيفاً لكي تلهم الناس وتساعدهم على تخطي الأزمات."
٣. إستمع، حلل ثم قرر:
في إجتماعاته مع قادته، كان مانديلا يترك المقدمة لهم، يجلس بصمت ويستمع إليهم ليتحاوروا فيما بينهم. بعدها يحلل كل رأي وفكرة ويلخصها محاولاً أن يرى كيف تتطابق هذه الأفكار مع رأيه ثم يدلي بما لديه. فيظن كل واحدٍ منهم أنه هو من صنع القرار وأن مانديلا أخذ برأيه. كان يقول دائماً لكي تعطي الناس فرصة للقادة ما عليك إلا أن تشعرهم بأن القرار من صنع أيديهم.
٤. إعرف عدوك وفكر مثله كي تتجنبه وتغلبه:
قال مانديلا مرةً: "في محاربة الأعداء عليك أن تتحدث لغتهم لكي تفهم أفكارهم وهمساتهم وسهواتهم." السياسة والحرب لعبتان مختلفتان وفي نفس الوقت متشابهتان، هناك هدف وهناك وسائل للوصول إلى ذاك الهدف، مانديلا قرر أن عليه فهم قوانين اللعبة وتكتيكاتها إذا أراد أن يلعبها ويهزم أعدائه. كان بارعاً في قراءة خصومه، ماهراً في إستدراجهم حيث يريد بحيث يوهمهم بأنهم كسبوا شيءً ما وفي الحقيقة هم الذين خسروا.
٥. قرب أصدقائك وإجعل أعدائك أقرب منهم:
كان يؤمن مانديلا أن أفضل طريقة لإحتواء أعدائه هي بوضعهم إلى جانبه كي يَأمن شرهم وخططهم الإنقلابية عليه، كان يقرب كل الذين لا يثق بهم وكان يستشيرهم ويجعلهم أقرب ما يكونون إلى مراكز صنع القرار ليحسوا بأنهم مرغوبٌ فيهم وأن بإمكانهم الثقة بهذا الرجل.
٦. المظاهر تعني الكثير وتذكر أن تبتسم:
لقد عرف مانديلا منذ بداية ثورته أهمية الصور والمظاهر ومدى تأثير الإعلام على رأي الناس، كان يعتني كثيراً بمظهره وكان يختار أفضل التعابير لشرح قضيته، لم يستعدي البيض ولم يقل لهم سأبيدكم من أرض أجدادي بل قال لهم هذه أرضنا جميعاً وهناك مساحة للكل. ولم يشعر السود بأنه باع قضيتهم بل أشعرهم بأنه سيموت من أجلهم ولن يتزحزح أو يستسلم لمطالب أعدائه. كان مهتماً جداً بالصور التي يلتقطونها له ولجناحه العسكري ليظهر لأعدائه أنه قوي وحازم وكان يعلم أن الرموز والشعارات أقوى من الكلمات إذ أنها تبقى في ذهن الناس وتساعدهم على تذكر الكلمات المعبرة عن هذه الرموز.
٧. لا شيء واضحٌ في السياسة:
في نظر مانديلا، الأمور لا تقاس بالأبيض والأسود، إما معي أو ضدي، بل هي بحرٌ شاسع من الإختيارات وماعليك فعله هو التستر على أوراقك وإيهام عدوك بأنك تملك الكثير منها. أشعره بأنه الأضعف وأنه لن ينتصر وسيهزم ولو بعد حين.
٨. التراجع والإعتذار من صفات القادة:
لم يكن مانديلا دكتاتوراً متسلطاً بل كان مستعداً للتراجع عن مقترحاته بكل أريحية إذا هي لم تنل إعجاب الأغلبية، كان مستعداً للرضوخ لأمر الجماعة بعد أن يستشيرهم ولم يقل لهم أبداً "إني أذكى منكم" بل كان متواضعاً جداً وبدون تكلف.
رغم أن مشروع جنوب إفريقيا نحو العدالة الإجتماعية ونبذ العنصرية مازال مستمراً إلا أنه على الطريق الصحيح. وخاصة بعد نجاحهم في تحقيق العدالة الإنتقالية والتي تقوم على الإعتراف بالجرائم الشنيعة التي إرتُكبت إبان حقبة الفصل العنصري والعفو عنها كي تتقدم الأمة، وتوثيقها كي تتعلم منها الأجيال القادمة ولا ترتكب نفي الأخطاء. هذا ما نحتاج إليه في عالمنا العربي، هناك الكثير من الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد ولا يوجد قادة أكفياء بإمكانهم الجلوس سوياً لإطفاء نار الماضي وبناء مستقبل أفضل لشعوبهم.
نحن كأمة مسلمة أولى بهذا المفهوم الديني والإنساني من مانديلا، ولكن مانديلا فكرة والأفكار لا تموت بل تنمو وتستمر، علينا أن نقف وقفة صريحة مع أنفسنا لكي نراجع معتقداتنا ونتخلص من الحمل الثقيل في قلوبنا من كراهية وتكبر وإقصاء وظلم لكي نفهم مبادئ التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة. وبد الإنشغال في هل مانديلا في النار أم في الجنة علينا أن ننشغل بهل سندخل نحن النار أم الجنة وهل نمتلك القدرة لقيادة أمتنا والنجاة بها من مستنقعات الجاهلية والأفكار العنصرية إلى سعة الإيخاء والعدالة وتقاسم السلطة والمكتسبات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق